تأريض — كلمة تقنية في الأصل، لكنها هنا تعني أكثر من مجرد سلك كهربائي يفرغ الشحنات. هي عملية سياسية وثقافية مقصودة، هدفها تفريغ الأمة من طاقتها ومن أصحاب العقيدة الصلبة، وتركها بأفرادٍ هشّين بلا يقين، وبلا حراس حقيقيين للذاكرة والهوية.
ليوم يتحدث الجميع عن العلماء والمشايخ، بين فتاوى متزاحمة وأصوات غائبة، المسألة ليست نقاشًا عاديًا، بل سؤال وجودي: من يوجّه الطاقة الدينية، وإلى أي طريق تُوجَّه؟
كثيرة هي الروايات عن دور قوى كبرى وأجهزة استخبارات في صناعة مشاريع عنف وتوظيفها. بغضّ النظر عن تفاصيل كل فرضية، النتيجة التي نراها واضحة: فكر فارغ صُدّر إلى مجتمعاتنا، يختزل الدين في شعارات واندفاعات، ويغري المستضعفين والجدد بخوض معاركٍ تستنزفهم وتستنزف معناها الحقيقي.
هنا كانت المرحلة الأولى من التأريض: سوريا والعراق. هناك جُذبت عقول المؤمنين إلى معارك مفتوحة، قاسية، بعيدة الهدف. ذهب من كان يحمل عقيدة صلبة للبناء والحماية، فصار وقودًا لحروبٍ لم يكن قرارها بأيديهم.
ثم جاءت المرحلة الثانية: الانقسام داخل البيت الواحد. شُبهات وتكفير وتشويه متبادل، حتى صار كثيرون يخشون مجرد الظهور في المسيرات أو الكلام في السياسة أو الدفاع عن المقاومة. هكذا يكتمل التأريض: مجتمعٌ يعيش الخوف، يتراجع عن الفعل، ويصبح متفرجًا سلبيًا ينتظر مصيره.
وفي فلسطين رأينا نموذجًا آخر: المقاومة احتُويت في هياكل رسمية قادت باسم التحرير، لكنها كثيرًا ما صارت إطارًا للترويض. استُخدمت الأسماء والتاريخ والمشروعية لتبرير سياسات تُقوّض جوهر المقاومة. ليس إنكارًا للمقاومة نفسها، بل إنذار من خطر احتوائها وتشويهها حتى تصير وظيفة بيروقراطية تخدم مصالح أجهزة، أكثر مما تخدم الشعب.
وأخيرًا يظهر شكل آخر من التأريض: التطبيع الناعم. مؤسسات ثقافية، صناديق تمويل، برامج “فرص” و”منح”، تمتص أي طاقة منتجة — كاتبًا أو فنانًا أو ناشطًا — وتعيد توجيهها إلى مسارات لا تُزعج السرد
الرسمي. التفريغ الثقافي هنا يساوي التفريغ العقدي: كلاهما يترك الأمة بلا يقين ولا طاقة مواجهة.
سواء آمنت أن كل شيء مخطّط أو أنكرت ذلك، النتيجة واحدة: الأمة فقدت كثيرًا من بنيانها المعرفي والاجتماعي. والشفاء يبدأ من آليات تحصّن الوعي، وتعيد الناس إلى المشهد، وتمنع أن يتحول الإيمان إلى اداة تفريغ بل الى حراك على ارض الواقع.
التأريض ليس مجرد مصطلح كهربائي. هو عملية سياسية وثقافية تستهدف العقول والقلوب. والردّ عليه ليس سلاحًا فقط، بل مدرسة، وصحيفة، ومنهج، وفن. الشعوب التي تحتفظ بذاكرتها لا تمحى. لذلك لنسمِّ عملنا مقاومة، ولنجعلها بناءً لا تفريغًا.
Thu 24th, Oct 24