كان لابن عمي حمزة هواية تربية الطيور، وعلى وجه الخصوص، الحمام، ورغم سلالات الحمام الكثيرة التي ملكها إلا أنني لا أذكُر منها غير الحمام البلديّ، وجوزٍ فريد كان يملكه لا أعلم اسمه لكنه كان يتبجّح بمعطفٍ فخمٍ من الريش حول رقبته.
كان حمزة يقضي أغلب وقته بالحديث عن أنواع طيورٍ أخرى يعرفها ويود لو يقتنيها، وإن لم يتحدّث عن هذا سيتحدّث بالطبع عن مغامراته في تربية الحمام؛ كإرجاع الهارب منه بنفسه أو بمساعدة من الحمام "اللمّام" وهذا الحمام بغض النظر عن سلالته؛ وظيفته هي استدراج الحمام الآخر سواءً كان من الهارب أو كان صيداً جديداً إلى الخُمّ البسيط الذي يُربي فيه الحمام فوق سطح المنزل.
عقب الشتاء في قريتنا الصغيرة تظهرُ عُيون ماء وتمتد بجانب الطريق كلٌّ في مسربه حتى تتجمع أخيراً في مسربٍ واحد أكبر يظلّ هديره اللطيف طوال الربيع حتى يجفّفه حرّ الصيف، وفي يومٍ ما ونحن نُراقب الحمامَ فوق سطح المنزل ونهزّ رؤوسنا لبطولاته في تربيته ولأحلامه، سمعنا نعيقاً غريباً، وكرجلٍ يتضور جوعاً ثم اشتمّ رائحة لحم يُشوى على مقربة منه، التفّ حمزة باتجاه اللحم، أقصد صوت النعيق، وقال: هذا نَورس!
أعرفُه جيداً، فقد سمعته مراراً في وثائقي أشاهده على التلفاز.
بينما بعضنا يسخرُ منه لعدم وجود نهر أو بحر قريب منا حيث تتواجد النوارس عادة، ظهر أنه وللمفاجأة كان الصوت لطائر نورس حقاً!
فانطلق حمزة باتجاه النبع ليرى إذا كان النورس سيرقُد هناك، ليصيده ويضمّه إلى مجموعة الطيور التي يملك.
وقد أفلح وازدادت مجموعته طيراً، وبعد بضعة أيام عدنا لزيارته، وكان النورس سعيداً في خُمّ حمزة بكمية الطعام التي تُقدم له، لكن نعيقه كان غريباً ومزعجاً جداً بالنسبة لنا. لم نعهد صوتاً مثله في جبالنا الهادئة، كان شاذاً، والأغرب من صوته كان الطريقة التي يجلق بها منقاريه كلّما نَعَق!
كان وجود هذا الطائر الأبيض بين باقي الحمام البلديّ نافِراً وكنا نتراهن بثقة؛ لا بدّ من أنّ ذكور الحَمَام لن تسمح لهذا الطير الدخيل والغريب بالاستمرار في أكلِ طعامهم وفوق هذا التجبّر عليهم بضرب إناثهم وإثارة الفوضى في منزلهم، هو الأكبر منهم حجماً وقوّة لكنّهم أكثر منه عدداً!
مَضت الأيام ولم يَكتفي النورس بتناول عَلِف الحمام فقط بل بدأ يأكل زغاليلهم الصغيرة حين يكون في قمّة جشعه. والأدهى من ذلك أنه أصبح يقلّد بعض أصوات الحمام نفسه، ولكن لم يكن ليستطيع تمويه الأمر تماماً، كانت طريقته مزعجة جداً، ظلّ نعيقاً ولو اختلف قليلاً عمّا قبل، ولا زال فمه يَنجَلِق وينفَتِل بالطريقة المضحكة ذاتها!
برغم الدمار الواضح الذي ألحقه هذا النورس في خُمّ حمزة إلا أنه أصرّ على إبقائه، فقد كان فريداً جداً عن باقي طيوره كما حَلُم دوماً، وكان يغترّ في نفسه عندما يتجمّع فتية القرية ليتأملوا النورس الوحيد الذي يملكه أحدهم في القرية.
مضت الأيام واحداً تِلو الآخر، وأعداد الحمام في خمّ حمزة تقل باستمرار، حتى الحمام اللمّام ذاته ما عاد لمّاماً وبدأ يهرب بدوره هو أيضاً، أصبحت طيور حمزة تهرب إلى سُطُوح منازل أُخرى وتبقى فيها لا تَملِك عَودة طالما النورس لا زال هناك! والذي بدوره تفرعَن ملكًا على خُمّ الحمام، يتجبّر ويَفتِك بالحمام الذي يجرأ على أن يأكل من طعامِه، بل ويضربهم ليسلِب طعامهم ذاته أيضاً.
وفي مُقابل إصرار حمزة على إبقاء النورس فقد أغلب حمامه بالتدريج، حتى بالفعل بعد بضعة شهور أصبح النورس وحده في هذا البيت، وعندها لم يَعُد يكفيه عَلَف الطيور الذي يضعه حمزة له لأنه أحبّ واعتادَ نكهة زغاليل الحمام الدافئة بدلاً عن هذا العلف الجاف!
في يومٍ ليس ببعيد، عادَ ابن عمي لمنزله، وصعدَ إلى السَطح ليتفاجأ أنّ النورس الذي ضحّى بطيوره الأخرى لأجل إرضائه لم يَعُد اليوم إلى الخمّ الذي استولى عليه، ليكتشف لاحقاً أنّه وجَد لنفسه فريسة جديدة..! مُربّي حمام آخر في القرية، لديه خُمّ مكتظّ بالطيور الدافئة.
ورغم محاولات حمزة البائسة في إقناع الرجل الجائع الجديد بالتخلّي عن فكرة الترحيب بهذا النورس وضمّه إلى طيوره حتى لا يُصيبها ذات مصير حمَام حمزة إلا أنه أصرّ على أنّ ما حدث هو غلط حمزة وليس ذنب النورس.. وظنّ أنّه يمتلك الآن الطائر الفريد الذي سيزيد مجموعة طيوره واحدًا، وسوف يُجيد تربيته وبعدها سيتباهى به أمام الفتية بالقرية…
كتابة ابداعية : ميسرة
سرد لغوي: سندس عدس